تشهد أمريكا اللاتينية منذ سنوات سلسلة من الأزمات السياسية المتلاحقة التي تعكس هشاشة الأنظمة الديمقراطية وضعف المؤسسات في العديد من دول المنطقة، فبين الانقسامات الحادة، وتصاعد الاحتجاجات الاجتماعية، تبدو القارة أمام تحديات عميقة تهدد الاستقرار الداخلي والإقليمي على حد سواء.
فنزويلا .. مواجهة مفتوحة مع واشنطن
تتصدر فنزويلا المشهد الإقليمي بعد أن دخلت في أزمة متفاقمة مع الولايات المتحدة. فحكومة الرئيس نيكولاس مادورو تواجه عقوبات اقتصادية خانقة، في حين صعّدت واشنطن وجودها العسكري في الكاريبي بذريعة مكافحة تهريب المخدرات. وقد أثار ذلك مخاوف من مواجهة عسكرية محتملة، وسط انقسام داخلي بين مؤيدين للحكومة الاشتراكية ومعارضة تطالب بانتقال سياسي عاجل.
الأرجنتين: أزمة اقتصادية وسياسية مزدوجة
في الأرجنتين، يتعمق التوتر السياسي على وقع أزمة اقتصادية خانقة تتسم بتضخم متسارع وهبوط حاد للعملة الوطنية. وتجد الحكومة نفسها في مواجهة الشارع، حيث خرجت مظاهرات حاشدة احتجاجًا على سياسات التقشف وارتفاع الأسعار. كما تشهد البلاد صراعًا داخليًا بين أجنحة السلطة نفسها، ما يضعف قدرة مؤسسات الدولة على إيجاد حلول عملية للأزمة.
البرازيل: استقطاب مستمر
البرازيل، القوة الاقتصادية الأكبر في القارة، لم تتجاوز بعد آثار الاستقطاب السياسي الحاد الذي خلفته الانتخابات الأخيرة. فالصراع بين أنصار الرئيس الحالي والمعارضة ينعكس على الشارع والمؤسسات، فيما تتصاعد الخلافات حول السياسات البيئية وإدارة غابات الأمازون، التي أصبحت محور جدل داخلي ودولي واسع.
تظاهر المئات من أنصار الرئيس البرازيلي السابق جايير بولسونارو في عدة مدن، عشية صدور حكم قضائي مرتقب في قضية تتعلق بمحاولته المزعومة الانقلاب على نتائج الانتخابات الرئاسية التي خسرها أمام دا سيلفا.
ورفع المحتجون شعارات تندد بما وصفوه “اضطهادًا سياسيًا” لبولسونارو، مطالبين بإسقاط التهم الموجهة ضده، فيما انتشرت قوات الأمن حول مقار المحكمة الفيدرالية في العاصمة برازيليا تحسبًا لأي اضطرابات.
تشيلى وبيرو: احتجاجات وعدم استقرار
في تشيلي، ورغم نجاح البلاد في اعتماد دستور جديد بعد أزمة 2019، فإن موجات الاحتجاج لم تهدأ تمامًا، حيث يطالب المواطنون بإصلاحات أوسع في مجالات الصحة والتعليم. أما بيرو، فتعيش دوامة من الأزمات السياسية مع تغير الحكومات بوتيرة سريعة بسبب فضائح فساد وصراع بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، ما جعل البلاد من بين الأكثر هشاشة سياسيًا في المنطقة.
كولومبيا والمكسيك: معضلة الأمن والجريمة المنظمة
من جانب آخر، تظل كولومبيا والمكسيك عالقتين في مواجهة مستمرة مع قوى الجريمة المنظمة وعصابات المخدرات، التي تضعف سلطة الدولة وتزيد من معدلات العنف. وبرغم محاولات الحكومات التوصل إلى اتفاقات سلام داخلية أو شن حملات عسكرية، فإن المشكلة لا تزال بعيدة عن الحل.
تأثيرات إقليمية ودولية
هذه الأزمات المتناثرة تلقي بظلالها على مجمل القارة، حيث يضعف التكامل الإقليمي وتتعثر مبادرات التعاون الاقتصادي. كما تستغل القوى الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة والصين وروسيا، حالة الانقسام لتعزيز نفوذها السياسي والاقتصادي عبر صفقات الطاقة والاستثمار.
في المحصلة، تبدو أمريكا اللاتينية غارقة في أزمات سياسية مركبة، تتراوح بين صراع داخلي محتدم وضغوط خارجية متزايدة. وبينما يترقب الشارع حلولًا ملموسة تعيد الثقة بالأنظمة الديمقراطية، لا تزال القارة مهددة بدوامة من عدم الاستقرار قد تعيق مستقبلها التنموي لعقد قادم على الأقل.